مرآة عزة
بقلم : حنان فتحى
لم تتمكن فى أول الأمر من الصعود إلى أرض الميدان ، تلك التى ترتفع قليلا من الأرض الطبيعية !!
حاولت أن تستند على ذراعيها وتقفز ، لكنها تعثرت بعد أن اختلطت الأتربة بطرف جلبابها الأزرق ، وعلق رباط حذائها الذى ينوء بثقل قدميها بحافة أسمنتية بالجدار !!
المشورا طويل ؛ وقد أتعبها المسير ، من حيث توقف بها "المينى باص" القادم من مدينة المحلة الكبرى .
تلفتت يمينا ويسارا ، تتأمل الفتيات اللاتى يرتدين زياً متقارب اللون وشارات قماشية متماثلة على أكتافهن ، ويمسكن بأدوات النظافة أو يقمن بدهان بردورة الطريق الأسفلتى باللونين الأسود والأخضر .
إقتربت فتاة منهنإليها ، ابتسمت فى وجهها ، وسألتها عما إذا كانت تحتاج مساعدة ، ولما أشارت برأسها بالموافقة ، نادت الفتاة زميلتها التى تركت فرشة النظافة وتعاونت فى الأخذ بيد السيدة المتعبة والصعود بها إلى أرض الميدان ، بعد ، بعد أن حملت لها حقيبتها ودوسيه أوراقها وكتبها لتتمكن هذه المرة من الصعود !!
راحت السيدة عزة تلتقط أنفاسها وهى تردد كلمات الشكر إلى الفتاتين ، وتتناول منهما الكتب ودوسيه أوراقهما وحقيبتهما !!
شعرت بأن شيئاً ما يسقط من جيب الحقيبة الخارجى لم تعبأ به أول الأمر ، لكن صوت ارتطام هذا الشىء بالحجر وانعكاس لمعانه على الحجر المقابل جعلها تعيد النظر إلى مصدر الصوت لتجد مرآتها المحببة إليها والتى دوماً تحملها للاطمئنان على وضع العدسات اللاصقة بعينيها الضعيفتين !!
اقتربت من الشاب الجامعى الذى يشمر بنطاله وأكمام الجاكت ليتمكن من وضع "اللاب توب" على قدميه فاتحاً صفحة "فيس بوك" ليحاور رفاقه خارج الميدان ، طلبت منه أن يناولها المرآة فهى لا تقو على انحناء الظهر بكل ما تحمله من آلام ، ترفق الشاب لحالها والتقط المرآة من بين الأحجار الملقاة تناولتها من يده وانصرفت بعد أن شكرته ودعت له كما دعت للفتاتين اللتين غابتا عن عينيها وابتلعهما زحام الميدان !!
بدأت عزة فى تجميع أوراقها ، ونفض الغبار العالق بجلبابها ، وتمشى خطوات بطيئة ، لتأخذ حظها من نسائم الحرية والنظرات التأملية !!
ضغطت بيسراها على موضع الألم من فقرات ظهرها المتعب تارة وتارة تضغط على موضع الألم من الخشونة التى أصابت ركبتها !!
تذكرت المهندسة عزة ، واستحضرت صورة من أيام الشباب التى مضى !! ... فأين هى الآن من تسلقها على "السقالة الخشبية" المرتفعة بكل تلقائية وحيوية فى موقع إحدى محطات المحولات وهى تستلم أعمال النجارة ، وأعمال الحدادة ، وطريقة رص شبكة الحديد لتعطى أوامرها بصب الخرسانة لسقف عنبر الخلايا الكهربية .
... تتذكر صورتها وهى تتجول داخل المحطة بحذائها القماشى الخفيف الذى يجعلها تنطلق بخفة على سطح المبنى ، وبدلة الشغل الثقيلة وتلك الخوذة المعدنية التى تحمى رأسها من منطقة الجهد العالى .
الآن تغزو قلبها الحسرة على ذهاب الأوقات والأيام فى عمل محدود يتكرر بكل مراحله من محطة إلى أخرى لا يأتى على قلبها بجديد ، ولا يضيف لخبرتها رصيد ، فقط يفيد محيط أسرتها وبلدتها الصغيرة !!
أما هنا ؛ ـ على الأرض الواسعة من الميدان فالعمل له أبعاد ضاربة فى عمق التاريخ الماضى ومدوية فى إسماع التاريخ القادم والجهود متنوعة والتلاحم البشرى لا نهاية له !!
يوم "مشهود وله وقع" فريد على قلب عزة ـ ومجموعٌ فيه كل الطوائف ـ فالمثقف يصافح العامل ـ والشيخ يحتضن الشاب ـ والفتاة تمسك بيد السيدة المسنة ـ والمسيحى يصب من ماء الوضوء للمسلم الواقف بجواره !!
واللافتات المتعددة الألوان والأشكال والمختلفة فى لغتها متوحدة فى هدفها ..!!
مشهد على الطبيعة ممزوج برائحة العرق ورائحة النيل ، راحت تتذوقه بكل وسائل إدراكها ، مشهد يختلف تماماً عن مجرد صورة فى شاشات العرض أو البث الفضائى الذى اعتادت عليه !!
مشهد أشعل مواجيدها وحرك كل حواسها !!
راحت الحاجة عزة تصلح من هندام طرحتها البيضاء ، وتغترف من رحيق الحماس المتدفق من أعين الشباب لتسقى به ظمأ الروح لسنوات مضت !!
وذهبت تتجول لتغذى بصرها بهذا الجمال ، وتربط بين ما تراه الآن وبين ما شعرت به وهى تدخل الكعبة لأول مرة وترى الوفود من المعتمرين وحجاج بيت الله الحرام !!
تتجول عزة ولم تزل المرآة التى لم تجد لديها متسعاً من الوقت لتعيدها بمكانها بالحقيبة ، لم تزل بيدها وهى تتنقل فى أرجاء مختلفة من الميدان !!
مرت نسمة باردة وحانية ، إنتعش بها قلب عزة ، نظرت إلى لون السماء وإلى جلبابها ، فكأن زرقة الجلباب قطعة من زرقة السماء ، وكأن ما يحتويه الجلباب من كيان يشبه قلب السماء !! وكأنها تطير بروحها حيث المسافة بينها وبين السقف المرفوع تتضاءل شيئاً فشيئاً !!
بدأت تنسى آلام ظهرها تدريجياً ، ـ وتدريجياً ، يعود إليها نشاطها القديم ، صعدت فوق أعلى نقطة من الميدان ، لم تشعر بأن الجسد الذى اقترب من الشيخوخة يختلف كثيراً عن الفتيات الصغيرات من حولها وكلهن يتبادلن المناقشات المثمرة ، ـ فقط بقى لها أن تطمأن على سلامة عينيها !!
راحت تتأمل فى المرآة ، لم تر عينها !! تحدق أكثر ؛ لم تر وجهها كله !! كل ما رأته هو القبة الجميلة للمتحف المصرى الوطنى ، تراه للمرة الأولى على الحقيقة ، يزداد شعورها بالفخر بمصريتها وبتاريخها الذى عرف التوحيد للمرة الأولى على أرض المعمورة على يد مينا موحد القطرين .
أدارت المرآة قليلاً ناحية اليمين ، تأملت فى المرآة رأت شارع رمسيس وعادت بها الذاكرة لحضارة شعب منذ سبعة آلاف قبل الميلاد !! وعن يسارها ترى شارغ القصر العينى وكان وفود من ملائكة الرحمن يتدافعون من حولها ليقوموا بتطبيب ما تبقى من أوجاعها !!
تنهدت عزة ، وبرغم فرحها بمرآتها ، وما طبع عليها من صور بلدتها ، إلا أنها ما زالت تبحث عن وجهها وعينيها فى المرآة !!
تحركت فى الموضع المقابل لتتأمل ثانياً فى المرآة !!
وفى هذه المرة ترى شارع طلعت حرب ، وتنتشى لهذا الإحساس المرهف بالزهو الاقتصادى ، ويدب فى روحها نسائم العزة التى لم تتذوقها منذ نعومة أظفارها !!
تنظر عن يمينها ثانية علها تجد الوجه الذى كادت أن تنساه تماماً ، رأت علوا ، وأفقا .. يمتد بارتفاع كوبرى قصر النيل وكأن مصر القديمة وعروس النيل بين يديها الآن !!
وقفت عزة مدهوشة ، أدهشتها الدهشة ، تعجبت تساءلت أين عينها بل أين وجهها ؟!! وماذا عن ملامحها القديمة ؟!
أغمضت عينها لترى ما طبعته المرآة من صور على الطبيعة الملموسة ، والتى أسعدت روحها .. روحها التى مازالت ترفرف على الحنايا من قلب الميدان !!
وكأن الصور فى مجموعها تشكل ملامح وجهها !!
حملت عزة الكتب ودوسيه أوراقها وحقيبتها لتعود إلى بلدها ومحلتها ، وهى ما زالت تحتضن ملامح وجهها الجديد المطبوع بمنتهى شوارع القاهرة على المرآة التى أصبحت لا تفارقها !!
ولم تزل مرآة عزة حتى الآن محمولة بين يديها !!
حيناً تدلك بها خشونة الحياة !!
ـ وحينا ... تصفى بها ما تعكر من قسوة الأيام .
ـ وحيناً آخر ـ تمسح بها ما يتجدد من موضع الآلام .